في بستان الله
و
ممالك الشعر
قراءة في ديوان
" تنويعات على باب الحاء "
للشاعر المغربي عبد السلام مصباح
في ديوانه " تنويعات على باب الحاء" يعمل الشاعر المغربي عبد السلام مصباح على تقديم قصائد مفعمة بالحب والحنين والنبل، لامتيازها بدقة الوصف ومتانة التشييد متوسلا بالأنسنة حينا لاستنطاق مؤثثات المكان والأشياء. وأحيانا أخرى بالتوليد اللغوي وتوظيفات المصطلح ضمن سياقات جديدة خارج مجالاتها المألوفة .
إنها مواويل للشعر، وللحرية في أسمى معانيها من خلال تكثيف الصور الشعرية وتشييد قصائد إرَتَحَقَتْ من قاموس خاص منضود بعناية داخل مساحات البوح الشفيف، ليفجر مكنون القلب، وغواية الحب والحلم والشوق، بمد جسورا من الدهشة التي تملأ أعطاف الكون الموقد بقناديل منيرة.
هكذا تعلن هذه القصائد عن كتابة في زمن الاغتراب/الزمن العاقر وهي تنعي البسطاء من الناس وتزرع في قلوب الصمت مساحات من الحلم والحب .
كما تبرز الكتابة كَهَمٍّ واشتغال يومي جلي من خلال تحول زمنها إلى لحظة وصال حميمية تتماهى فيها ذات الشاعر بفضاء الحلم. تماهٍ داخل أروقة العجائبي، ما جعلها كتابة تبحث عن فضاء أرحب، لتتناسل أسئلتها الكبرى المحفوفة بالعديد من التفاصيل الدالة على رغبات مهمشة تتحول معها القصيدة إلى امرأة ثم إلى وطن بحجم الحنين.
إننا إزاء مواويل حزينة تنقرها أنامل على أوتار رباب الذات التواقة للحرية والحبور. ترقى بمواضيعها إلى خلق حوار مع أعمال من سبقوه أو من عاصروه متحولة إلى سنابل منحنية الرؤوس أو أكاليل وفاكهة للزمن الأتي.
إنها الكتابة بدافع الحب، ومن خلاله التي تحول أحيانا إلى غضب بسبب الخيانات المتكررة، ما يولد الأرق الذي يسم الروح الفواجع...لكنها سرعان ما تتحول إلى غيمة متشعبة في الجسد، تواقة للحنين والنزوات والحبور والشعر..لترتقي إلى صورة تعكس نفسية شاعر يربض في أعماقه طفل مشاغب، متحرر من كل قيود العالم، يحلم بامرأة على الدوام، ليجلس معها على عرش بهي في مملكة العشاق .
ما يجعل قصائد هذا الديون تطل علينا كامرأة عاشقة على الدوام، تفجر بركان الرغبة والانتظار بإطلالاتها المتكررة، وزياراتها غير المنتظمة، وهي تجتاح الشرايين، وتهيج أشواق القلب، ثم ترحل دون استئذان. كامرأة جاحدة أحيانا، مشاغبة وهي تمضي عكس رغباتها بمراسيمها القاسية.
يتضمن الديوان العديد من الاهداءات سواء لشريكة حياته، وأبنائه وأصدقائه، كما يحتفي بقضايا الوطن والعروبة كقضية العراق ومقتل محمد الدرة الفلسطيني .لتبرز بذلك تجدرها في المشهد العربي ويجعلها حمالة لهمومه ومعالجتها لتاريخه المشترك.
فكيف تجلى توظيف هذه الحمولات من خلال هذا الديوان؟ وبأية خلفية إبداعية وفنية كتبت قصائده؟
وللإشارة فالديوان صادر عن دار القروين سنة 2011 ويتضمن ثمانية عشر قصيدة
1) لذة الكتابة
هل للكتابة لذة؟ وإن كان الأمر كذلك: كيف نتمثلها من خلال هذه القصائد؟
ربما تجليات هذا الطرح قد نلمسه في حقيقة الوصال الذي هو في الأساس منبع الكتابة ووجه من وجوهها المشرق، حين تداهم الشاعر نيران الرغبة، ولذة البوح لحظة سفر عاشق في شرايين القصيد، لتمده بنسغِ الحياة ولتمنحه شباباً متجددا. فهذه الصور الباذخة بقدر ما تسمو وتتعالى عن كل تقليد، تعلن عن عفتها كقديسة .
في قصيدة "اتهام" ص25 التي كتب كرد أنيق وحضاري عن مكائد المتشككين في أصالة إبداعه، تبرز اللحظة انتصارا رمزيا بكتابة قصائد رائعة تقذف روح الشاعر وذاته وهي تتشكل فوق مساحة ليل حابل، أو جسد يلفه بياض متمنع. فالحضور الوازن للغة الشفافة والبهية والحالمة ستبرز في قصائد أخرى كقصيدة "عيد ميلادك"ص35التي تعري عن رغبات الذات المثقلة بالحلم، والرعشة لتتحول إلى فضاء رحب للحلم الذي يضيء مساحات من جسده كي يصهل مرحا، وفرحا، وقصائد. إنه نوع من جنون الكتابة الذي يصنعه العشق والشوق .يقول الشاعر:
"يَأْسِرُني الفَرَحُ المُتْخَمُ
بالشَّوْقِ
وبِالعِشْقِ
بَِحَبَّاتُ الكَرَزِ المُشْتَهاةِ
لِنُشْعِلَ في لُغَةِ العُشّاقِ
وفي الكَوْنِ
مواويلَ
وَنَشْرَبَ نَخْبَ الزَّمَنِ المَتَوَهِّجِ" ص 38
وهو زمن أخضر مبتكر يولد مسربلا بالحلم والنقاء والصدق. كسمة تأطر العديد من القصائد وتعبر عن ثقافة الاعتراف والتي تبدو أكثر وضوحا من خلال إهداءاته العديدة.
مثلا في قصيدة "تقابلات" ص47المهداة إلى أصدقائه المتخاذلين وقد قدم لهم بيت لطرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة///على المرء من وقع الحسام المهند
هي قصيدة تبرز العتاب واللوم كما يرد فيها الشاعر على "جلادي الكلمات"برد مرير، معتبرا إياها سكاكين تافهة مترعة بالوهم في زمن رديء مليء بالخيبة معتبرا إياهم أعشاباً حاقدة في حقول عشق متوهج يقول:
"فَتَرَى حُلْمَكَ،
هَذَا النَّاصِعَ وَالأَطْهَرَ،
فِي السَاحَاتِ
مُبَاحاً لِمُجُونِ الأَلْسِنَةِ،
وَتَرَى أَزْمِنَةَ الْحُبِّ الْبَادِخِ
والأَنْقَى
تَتَدَلَّى مِنْ أَدْرَاجِ مَكَائِدِهِمْ،"" ص 50
إن القاسم المشترك بين أنبياء الشعر وأحبائه هو العشق الموشوم بالتعب، وهي ظلال القصائد التي تتربع عرش الروح وخلايا الجسد، متخذة صورا متعددة. أكاليل/مشكاة/سدرة /حب ملتهب غير متدفق/ فاكهة الزمن الآتي"ص51، نكاية في المتخاذلين من أصحاب الأقلام المأجورة، معتبرا القصيدة سنبلة نشوانة مليئة في بستان الله ومملكة الشعر.
فالكتابة تبرز من الوهلة الأولى حسب تجليات الإهداء عربون محبة للأصدقاء على نبلهم وحملهم المشترك، باعتبارهم بوابة للبوح الشفيف، وشموعا للمحبة المخصبة بالفرح والجنون والعشق، داخل حقول الغواية الشعرية، لكن أبعادها المضمرة بقدر ما تمجد القيم النبيلة، تثور في وجه العنف والقهر، والاستبداد والألم، وهي نبتت في تربة القلب لتزهر ثمارها في عتمة الدروب.
لقد أهديت القصائد إلى كل من الشاعر: ابراهيم قهويجي، الشاعرة فاتحة مرشيد، ومنها ما تم إهداؤه إلى بعض المدن كأبي الجعد والحسيمة .
ونلمس أن التوزيع الرمزي بين الأشخاص والأمكنة بقدر ما ابرز النبل والاحتفاء، عمل على رسم ملامح بعض الأمكنة امتنانا لساكنتها ولبعض المنتمين إليها كمبدعين..تشريفا وتقديرا وامتنانا .يقول في قصيدة بطاقات إلى شاعرة :
"تداعبها موسيقي الريحِ
وَأَسْئلةُ الماء
تُطَوِّقُهَا بِزَمَنٍ
يُنْشِدُهَا شِعْراً
يُورِقُ
يُزْهِرُ
بَيْنَ مَدَارَاتِ الْكَوْنِ " ص 97
أما في قصيدة "بطاقات إلى أبي الجعد" ص101 فيعبر فيها عن حبه وامتنانه وفرحته الكبرى بتكريمه في ملتقاها الشعري :
"هُنا...
هُنا في أَبي الجَعْدِ
أَوْقَدتُ مِصباحَ شِعْري
"فَأَبْصَرْتُ في كُلِّ وَجْهٍ أَنا"ص 101
وهي قصيدة تبرز الحضور والغياب المتجلي في اللحظة التي خرجت من نطفة الحلم والحب، لتمنحه أجنحة للتحليق في سماء القصيد. فالتعبير عن الأحاسيس الدفينة انفجر جداول شعر حالم، تنشر الفرح والنور، وغمر الروح بلحن اللحظة الخالدة. معتبرا مدينة أبي الجعد، مدينة خلقت للحلم والسفر وهي تمد الجسور نحو قلب الشعراء.
وسيتكرر الإهداء إلى مدينة أخرى من خلال نص "بطاقات إلى المدينة الفنيق" ص 111 وهي مدينة الشاعر "محمد أعشبون"الحسيمة " التي اعتبرها الشاعر أرضا طيبة مفعمة بأريج التاريخ. والمدينة الجريحة التي ظلت تعانق أحزانها، وتنزف فوق مساحات الليل "وهي قصيدة ترجمت جانبا من مفهوم حاءات الديوان "الحاء: الحياة، السين: سوسنة، والياء: يمامة، والميم: موال، والتاء : تباشير:
"حُسَيْمَـة،
هَا أَنْتِ تَبْعَثِينَ مِنْ رَمَادِك،
شَامِخَةً
مِثْلَ تَدْغِين،
وتَنْهَضِين
رَغْمَ قَسَاوَِةِ الأَلَم،
وَرَغْمَ الْجِرَاحَات،
وَرَغْمَ أَعْضَائِاكِ الْمُتَنَاثِرَة،
تَنْهَضِيـن
مُفْعَمَةً بِالْفَرَح
فِي عَيْنَيْكِ وَهَجٌ رَاشِحٌ،
وَفِي الْيُمْنَى صُورَةُ عَبْدِ الْكَرِيم،
وَفِي الْيُسْرَى شُعْلَةُ التَّحَدِّي
وَسُنْبُلاَتٌ لِلْقَلْب
وَلِلشِّعْرِ
وَلِلصَّبَاحَاتِ الأَنِيقَة". 117
فالتفكيك مكون من رموز أخرى دالة على الحياة، والحرية، والأمل. لمدينة تنبعث من رمادها مفعمة بالفرح وبأمجاد رجالها، مصرة على التحدي والصمود.وقد تضمنت هذه القصيدة بيتان للشاعر فواد لكحل .
2) الأنسنة
من بين مميزات الكتابة في ديوان "تنويعات على باب الحاء" للشاعر عبد السلام مصباح توظيف الأنسنة كما هو الأمر في قصيدة "زيارات "ص 69 حيث تبرز القصيدة كزائرة ليل تنشر بين يديه بياضاً مترعا بالحرف والجمر، وتحرك نبضه وشوقه، فتفجر فيه بركانا ثم تغادره. وهو رحيل تعقبه عودة متكررة في كل اللحظات من حلم ويقظة، وتتخذ خلالها حللا جديدة آسرة ومذهلة . يقول الشاعر :
"وَفي لَحْظَةِ عِشقٍ مَجْنونٍ
تَتَسَلَّلُ أَحْرُفُها
مِنْ قَافِيَةِ الأَرْضِ
وَتَجْتَاحُ شَراييني
تَلْبَسُني
تَتَوَغَّلُ فِي وَجَعي
فَيَهيجُ النَّبْضُ
يَهيجُ الشَّوِقُ" ص 72
إنها الزائرة الممتلئة بها في الحاء، والمسربلة بالنزوات والطيش والدفء، المتحولة إلى إشراقات دالة على الرؤيا بين الحلم واليقظة مهفهفة :
"تَسْبُلُ جَفْنَيْهَا
وَتُلَمْلِمُ أَوْرَاقَ التُّوتِ
تَفُكُّ إِزَارَ قَصِيدَة،
في غَفْلَه
(...)تَزْرَعُني في غَيْماتٍ مُثْقَلَةِ
بِاللَّحْنِ الْمَكْنُونِ
وَبِالزَّادِ
وَبِاَلفَرَحِ..." ص 74
وهي زيارة تبشر بولادة القصيدة وقد زرعت في روح الشاعر غيمات مثقلة بالفرح. فهذه الزيارات تأخذ في أبعادها الدلالية والرمزية تشبيها خاصا بنزول الوحي في أوقات متفرقة، وغير محددة، ما يدخل النص في تناص جميل ودال على الطهر والصفاء والصدق يقول الشاعر :
"كَانَتْ تَأْتِينِي فِي غَيْرِ مَوَاعِدِهَا
تَمْتَطِي مُهْراً
تَتَنَاثَرُ تَحْتَ حَوَافِرِهَا
سُنْبُلَةُ الْحُبِ" ص 75
إنها قصائد تبرز تمردها كذلك، وزئبقيتها كلما حاولنا معانقتها واحتضانها، فهي كزائرة الليل مفعمة بالرغبة ومحفزة، لكنها لا تخضع أو تدعن، يقول الشاعر:
"وَحِينَ أَمِيلُ إلِى عَيْنَيْهَا
لأُِعَانِقَهَا
وَأُبَارِكُ فِعْلَتَهَا
تُسْرِجُ خَيْلَ الْبَرْقِ
وَتَرْحَل" ص 76
إنه الرحيل الدائم لمحبوبة مذهلة، خرافية، تبعثر الذات أشلاء، وتعلها بالرغبة والشوق، تحويه بين ذراعيه وتكتبه قصيدة أخرى .
3) التشكيل البصري وتقنيات الكتابة
تميزت قصائد الديوان بتشكيل بصري متميز، جميل ومعبر. يترجم الحالات النفسية المختلفة، ويوحي بدلالات رمزية توزعت بين القسوة، والعنف، والدهشة، والانفلات. كما أنها قصائد وشحت باستهلال وقفلة النهاية، كما هو الأمر في النصوص المسرحية لتبرز سياقا عاما للقصائد دال على الأمل، والفرح، أو الألم، وبالتالي مختلف الحالات النفسية الناجمة عن الكبوات والخيانات المتكررة. وقد تجلت من خلال قصيدة تحمل عنوانا مثيرا "مرسوم ثان" ص 77 كإعلان عن المنع الذي يتم تبريره موزع على أحد عشر مقطعاً، وهي موانع أحاطت بها المحبوبة ذاتها لدرء كل دنو من مملكتها وهي غارقة في عزلتها المريرة، نورد بعضا منها فيما يلي:
مَمْنُـوعٌ
مَمْنُوعٌ أَنْ تَفْرِد َأَجْنِحَةِ الْعِصْيَانِ
وَتَأْْتِيْنِي
كَيْ تَقْرَعَ أَجْرَاسِي (...)
مَمْنوعٌ أَنْ تَرسُمَ خارِطتي ..
مَمْنوعٌ أَنْ تَفتحَ مَملَكَتي
مَمْنوعٌ أَنْ تُطلقَ أَسرابَ عَصافيري
مَمْنوعٌ أَنْ تَسمحَ للطيرِ الأخضرَ أن يُوغلَ في زَمني
مَمْنوعٌ أَنْ تَجعلَ شَمسَكَ تَدخلُ غاباتي العَذراء
أَنْ تَجعلَ أمطارَكَ تَغسِلُني
أَنْ تَدخلَ حَقلي
أَنْ تَركضَ خَلفي
أَنْ تَدخلَ بَين الحَرفِ والحُلمِ
أَنْ تَدعَوَني لِلرَّقصِ" ص 79
فالموانع المتعددة حولت مملكة الحبيبة إلى أرض بوار، وخلاء مقفر، وإعلان عن الموت والحداد. ما يحدد اخيارات نابعة عن قناعات مبررة بالخيانات المتكررة والفظيعة. فالاعتصام داخل الحصون المنيعة هو في نظرنا إعلان وإقرار عكسي يفضحه منطوقه على اعتبار أن تلك القرارات هي دلالة على المرغوب فيه، وبالتالي ستقرأ القصيدة بدلالات مضادة ضمن منطوق جديد أو مرسوم ثالث للمرغوب فيه تدعوه فيه للحب وللحياة .
4) الرثاء/والهجاء/وحق الرد
إلى جانب الأنسنة والتشكيل البصري يتضمن الديوان قصيدة حول الرثاء وأخرى خصصت للهجاء وثالثة تضمنت ردا قاسيا .
لقد لمسنا في قصيدة "الطفل القدسي" ص 119 رثاء لشهيد الحرية والكرامة الطفل محمد الدرة الذي وقد اعتبر الشاعر اغتياله نوعا من النوم المؤقت الذي يورق في عينيه حلما رائعا، وصبحا بألف فراشة، وهو نوم سيؤرق عيون المتخاذلين والمستمتعين بمشاهد الحقد البربري الموشوم بنزعة تدميرية، لأنه نوم سيفجر زغاريد الحجر وإعلان للفجر المنبعث من تحت الأنقاض وإرهاصا لتفتق آفاق أخرى وفرح قادم، يحمل في طياته بوادر التغيير باستمرار مقاومة المحتل، كما سيدمي أثار الهمجية، كما سينتج عنه فتح مساحات جديدة مضيئة للحلم في أوردة الأرض المصادرة، كما سيفزع كيانات الصمت .
في حين نلمس نزوحا نحو الهجاء المرير في قصيدة "ممثلة " ص53 سواء من حيث لهجتها أو قاموسها اللغوي المنتقى بعناية، وهو ما أبرز نوعا من المرارة، وردا عنيفا نتيجة أذى سابق .
إنه الحب الذي يتحول إلى كره، فتزدهر معه الكراهية بسبب للغدر والتنكر للجميل، وهو ما أفعم القصيدة كذلك بالعديد من الصور القاتمة والدالة من قبيل :
بَوصَلةٌ مَشدودةٌ نًحوَ الزَّمنِ اليابس" ص 55
الجَسد الوارَف والمَعجون بألفِ يدٍ" ص 55
الوجه المجذور" ص 56
بارعة في (التمثيل، الكذب، فعل الحب) ص 56
إن هذه الصور النابعة من القلق، ومن الألم تبرز عذابا واضطرابا ،كما لمسنا من خلال القرينة الشعرية التالية ، يقول الشاعر:
" تَمْثِيلُكَ هَذَا
أَدْخَلَنِي غَابَاتِ الْحُلمِ الأَخْضَرِ
وَالضّوْءِ الْمُورِقِ...
فِي رَمْشَةِ عَيْنٍ
أَخْرَجَنِي
عَذَّبَنِي
ضَيَّعَنِي
زَرَعَ الْحُزْنَ بِقَلْبِي..." ص 57
وهي احساسيس بقدر ما تحمل في طياتها الصدق، تبرز بعد الرؤية ومعرفة دقيقة بتفاصيل جسد موشوم بالنار والمواجع " يقول :
"كُلُّ تَفَاصِيلُكِ أَعْرِفُهَا
نَبْضاً نَبْضاَ
حَرْفاَ حَرْفاً
أَعْرِفُ نَهْدَيْكِ
فَفِي نَبْعِهِمَا تَوَضَّأْتُ
وَأَطْفَأْتُ حَرِيقِي،
(..)
أَعْرِفُ مِلْحَكِ
قَمْحًكِ
عُشْبكِ
فَاكِهَتُك..." ص 58
أما في قصيدة " اتهام" ص 25 سنلمس دفاعه عن نفسه في إطار حق الرد وإبعاد تهمة التقليد عن شعره الذي قارنوه بشعر الشاعر الكبير " نزار قباني " ليفتح النار بقصيدته على المتشككين من خلال التغزل في جسد القصيدة / المرأة المفعمة بالحلم والحب، مبرزا قدرته على تشكيلها وفق مزاجه على بياض الورق ولذة الأسر .فالقصيدة ظلت دوما في نظره "امرأة تبعثر أحلام الشعراء
"وَتعشَقُ مثلي أَزهارَ اللوزِ
(...)
وَرياحينَ
تَتضوَّعُ في مَلَكوتِ الَّله
وتحت سرير ِامرأةٍ
من بُرجِ النار..." ص 26
5) الحلم والشعر والغوايةمحاولة للرقص على التخوم
تبرز قصائد الشاعر عبد السلام مصباح اشتغالا رهيبا على التخوم، وهي تخوم في مدارات الحلم والحب والحياة، تناوش الغواية، وتؤجج النار في ثناياها لتعري عن أنوثة القصيدة الطافحة بالجمال. ففي قصيدة الوردة الأولى" ص 10 تتمدد القصيدة بين هسيس الشفتين وهي تتزود من قنديل الشفق لتتحول إلى امرأة حالمة جميلة، صور مافتئ الشاعر ينسج تفاصيلها عن ورود أخرى: كوردة الجلنار التي يوجد ضوء أجنحتها بين شعاب القلب وشفيفه .
إنه حديث الورد الدال على الجمال والأنوثة ورهافة الإحساس الذي يولد التعلق والحب من خلال ثلاث قصائد طرز بها الشاعر مفتتح ديوانه " تنويعات على باب الحاء "
في حين نلمس في قصيدة "ارتجاح العشب الأخضر "ص17يبرز الخطاب الموجه للعشيقة برغبة محمومة في البوح عن مكنون القلب، وغواية الحب والحلم المرشوق بالعشق، حب يقدم على طبق العمر الباقي كهدية .
ويأخذ هذا الحب صوره المتعددة بفتحه لأبواب الحلم والوجد التي تحمل في طياتها دعوة للسفر نحو الفردوس ونحو اللذة، عبر مسارات الذات المهدهدة لنبضات القلب. وهي تمد جسور الدهشة وتملأ أعطاف الكون ، وتوقد قناديلها بعدما صودرت لهجتها استعدادا لانطلاقة جديدة .
فمناوشة الحلم تعلن الرغبة العميقة في الحرية وتعبير كذلك عن الكتابة في زمن الاغتراب كما يتجلى في قصيدة " طموح " ص 29 التي تبرز رغبة الشاعر في مناوشة الحلم من خلال مخاطبة لحبيبته، مناوشة طافحة بالفرح والألفة، وهو يفجر في عينيها بوحا عارما يطهر الجسد من أورام القحط والكبت والحزن والاغتراب. لتضحى فقصيدة "طموح " دعوة للوصال والشعر والحلم والحرية يقول :
"كَانَ طُمُوحِي مِثْلَ جَمِيعِ الْبُسَطَاءِ
بِهَذا الْبَلَدِ...
أَنْ نَجْلِسَ فِي الْمَقْهَى
وَنُصَفِّقَ لِلنَّادِلِ
نَطْلُبُ فِنْجَانَيْنِ مِنَ الشَّوقِ
وَبَعْضَ شَرَائِحَ
مِنْ خُبْزِ الْوَقْتِ... " ص 32
فالدعوة إلى الحب مقترنة بمطلب الحرية ، حرية الذات والروح والكتابة يقول الشاعر :
"فَنَسْتَرْخِي فِي ضَوْءٍ الْحَرْفِ
وتَحْتَ سَمَاءِ الصَّبِرِ
لِنَرْسُمَ مَمْلَكَةً
تَفْسَحُ لِلْهَمْسِ
وَلِلإِصْغَاءِ إِلَى أَجْنِحَةِ الًَّصَّمْتِ...
مِسَاحَاتٍ
نَزْرَعُهَا بِالْحُبِّ" ص 33
إنها دعوة كذلك إلى تحرير الكاتب من اغترابه في "الزمن الحاضر " و ليعيش كريما في وطن يفتح للرغبات المكبوتة الآفاق الواسعة " يقول الشاعر :
"فنَنَامٌ عَرَاةً
مِثْلَ جَمِيعِ الشُّرَفَاءِ
وَكُلِّ النَّاسِ الْبُسَطَاء
بِهَذَا
أَو ذاك البَلَدِ" "ص 34
ويمتزج الحلم بالوصال والعشق في قصيدة "سيدتي تفتح للعشق خزائنها"ص41 بحيث تتحول لحظة الوصال إلى لحظة التحام حميمة تتماهى فيها الذوات وهي تفتح خزائنها كفضاءات حالمة تؤثثها الأشياء برمزية بديعة من قبيل: درج القلب، مناديل الحب، درج الروح، عناقيد البوح، درج الجسد، ألوان الفرح " ص 43
وهذا التوظيف بقدر ما يفتح النص على فضاء عجائبي يحول الجسد إلى فضاء أرحب ومجال لتفجير اللغة الشعرية وتشكيلها بأسئلة كبيرة .
6)على سبيل الختم
"تنويعات على باب الحاء"، سفر في لذيذ الشعر وأعذبه، أقرب إلى الوجدان والروح. بتحولها إلى مواويل وتنويعات أنغام موسيقية على باب الحب والجمال" ما جعلها تتسم بحمولات وتصورات بليغة حول الحب، والحلم، والحرية، والأنوثة زادها رونقا تشكيلها البصري الدال المفعم بالتوتر والقلق، لتحوز فيه الكتابة والتشكيل مساحة جد مهمة عكست لذتها وفرحها وتوهجها ورمزيتها المكرسة لثقافة الاعتراف المتجلية من خلال الاهداءات العديدة، واستعاراتها المبتكرة المرتكزة في تشييدها أساسا على الأنسنة .
لقد توزعت تيمات هذا الديوان بين الحب، والكتابة، والتشكيل البصري، الهجاء، والاعتراف، والتضمين..كما لعبت فيها الأنسنة دورا محوريا في إبراز الصورة الشعرية وأنوثة المرأة المجلية أساسا كقصيدة مَحْلوم بها على الدوام.